وصلت المنزل بعد يوم طويل وممل. المنزل عبارة عن غرفتين و مطبخ صغير و راكوبة أمام الغرفة الغربية. هي للضيافة.
السور الخارجي تهدم مع موجة السيول والفيضانات الأخيرة. فقام أولاد القرية بمساعدة الضي -ابنها الأوسط- في إعادة بناء السور بالطوب الأخضر ولما تقطعت السبل بهم اكملوا جانبيه الشمالي والشرقي بالقش. صريف يحفظ حرمة أهل البيت.
استقبلها قدورة -ابنها الصغير - بتقرير شفاهي قض مضاجعها (الكهرباء من جينا من المدرسة كملانه . ناس الموية قطعوا الموية من بره عملوا حفرة ما شفتيها يمه) ويواصل قدوره تقريره وهو ممسك بطرف التوب من آخره (كمان على ولد حاج بابكر دقاني وأكل فطوري . جيت البيت ما لقيت أي زول . مشيت ناس حاجة نفيسة اتغديت معاهم).
(يا ولد ما تسكت متين جيت أنا الله ينعلك وينعل سنينك. والله كان ما دقيت على وكبيت دمه في الواطة إلا اعلقك من كرعينك في الباب ده . طير أمشي تطير عيشتك انت).
دوامة من المشاكل والحجج اعتادت حاجة العازة سماعها صباح مساء. دوامة لا تنتهي.
الضغط وصل أدناه 160 واعلاه 190 و عبد الصمد -تمرجي الشفخانة - ينصحها و يحذرها (اعملي حسابك يا حاجة العازة من الجلطة والذبحة).
بعد فريضة (العشاء) و لقمة (العشاء) أخذت تحسب حصيلة اليوم . لا تكفي لسد احتياجات الغد. (مافي عرس قريب يا ربي) مهمهة بصوت خافت بحثا عن أجر إضافي عبر (دق الريحة) أو تعليم العروس (رقيص العروس).
قدورة إلى الكهرباء والضي لإحضار أكياس الفول والداندرمة من السوق القريب.
وبدأت رحلة تعبئة الأكياس من جديد ليوم غد. تحلق حولها الصغار لتحكي لهم عن حاجة الغولة، فاطنة السمحة، فاطنة الشينة و ميويه ام ركبين. ومن ثم تحكي لهم عن صولات وجولات والدهم في المشاريع الزراعية (انتو قايليني كنت كده . ابوكم كان مهندس زراعي كبير . زمن نميري الحكومة مديانا طباخ وسفرجي وغسال ومكوجي. كنت معلقة ما بغسله). ايييه يا زمن . رفعت الطرحة لتغطي بعض من شيب أطل وكأنه يمد لسانه لها ساخرا من جور الزمان عليها.
حاجة العازة من معيشة المترفين إلى قضاء ثلاثة أرباع اليوم في الشارع تسمع ألالفاظ البذيئة و تخوض المعارك الخاسرة وتكتوي بسياط المحلية و ارزقيتها. حاجة العازة سمعت ألفاظ لم تألفها وهي في سرايا المفتش الزراعي. وخاضت معارك من أجل ربع متر لبنبرها. معارك لم تكن لتخوضها لو كان عبدالمجيد حي. ايييه. منعول أبوكي بلد.
من السابعة صباحا وحتى مغيب الشمس والعازة تبيع وتجادل وتدين وتستدين تمر عليها نفحات الصباح و نسمات الضحى وشمس الضهرية و يا لها من شمس و يا لها من حرقة.
كانت تتقي حرور الشمس بطاقية سعف أهداها لها ريس عمال الكمائن قبل سنتين ووجباتها ساندويتش طعمية وكيس فول وموية من السبيل.
لم تكن حاجة العازة تمل من تعبئة أكياس الفول والداندرمة وسرد الحكايات للصغار. كانت تشتغل دوامين الصباحي لاولاد المدارس وبعد الضهر وحتى المغيب قريبا من عمال الكمائن. ويوم الجمعة (ترمي الودع) لحريم القرية وناخد (البياض) لتبدأ رحلة يوم جديد بعد أن تستغفر الله سبعين ان كذب المنجمون ولو صدقوا.
ذات مساء وهي عائدة مع المغيب تحرش بها وداعة وطرحها أرضا محاولا الاعتداء عليها و لولا لطف الله وظهور حاج عبدالقادر العربجي لحدث ما لا يحمد عقباه.
بعد أن قام عبدالقادر العربجي بزجر وداعة ورفعه من فوق حاجة العازة بالقوة . نهضت حاجة العازة تلملم حاجياتها المبعثرة في الأرض وهي تنتحب بحرقة و ذل و مهانة.
استوقفت وداعة (عبيط القرية) واستحلفته ثلاثا إلا يخبر أحدا أنه حاول الاعتداء عليها ووعدته بساندويتش طعمية يومي مع كيس داندرمة. وافق وداعة على الصفقة التي تحفظ رؤوس أبناء وبنات حاجة العازة مرفوعة وسط القرية وتضمن له وجبة إفطار يومية . سألها عبدالقادر العربجي : (انتي يا العازة وداعة الاهبل عايز يعتدي عليك تقومي تديهو فطور يومي)
ردت عليه وهي تبكي : (يا حاج عبدالقادر وداعة كان اتكلم بزيد الكلام وأولادي وبناتي روسينهم بتبقى فى الأرض. اعمل شنو أنا . أنا ما عملت حاجة انت شايف وحاضر كل شي . لكن الناس ما بترحم) .
بللت الدموع لحية حاج عبدالقادر العربجي وهو يعود بحاجة العازة إلى منزلها على ظهر الكارو. ايييه حليلك يا باش عبدالمجيد . حليلك والله. مسح دموعه بكلتا يديه واقسم ان يعيد حاجة العازة يوميا إلى منزلها وبلا مقابل..
وداعة الكلب يشبه إلى حد ما (عبيط القرية) في رواية (علبة من الصفيح الصدى) لاحسان عبدالقدوس.
حاج الفضل -مسؤول المويه بالقرية- نوع آخر من أنواع التسلط والعنجهية والفساد. يأخذ حصة القرية من الجاز المخصص لتدوير البيارة ويبيعه للمزارعيه ويفتح البيارة ساعتين صباح وساعتين مساء. يعتبر نفسه الرجل الثاني في القرية بعد حاج بابكر. مثله مثل نائب الرئيس. مافيش حد أحسن من حد .
حاج بابكر والفضل مثل دريد لحام في (عيلة الدوغري) فحاج بابكر هو رئيس اللجنة الشعبيه ورئيس مجلس الآباء بالمدرسة وأمين ديوان الزكاة ورئيس لجنة تطوير القرية ورئيس لجنة المياه ورئيس اتحاد المزارعين والرعاة بالقرية ورئيس لجنة أمن القرية و حاج الفضل ينوب عنه في كل المناصب أعلاه.
نواصل
0 التعليقات:
إرسال تعليق