اثار المقال الاول للاستاذ الهندي عز الدين – رئيس تحرير صحيفة
المجهر السياسي – الذي نشره الثلاثاء الماضي في عموده (شهادتي لله) تحت
عنوان (عندما تصبح ست الشاي وزيرة صحة فقط لاغراض هذا الاحتفال) اثار لغطاً
كبيراً علي شبكات التواصل الاجتماعي حيث يري كثيرون ان المقال فيه اسقاط
لجهود شباب شارع الحوادث ورمزية التسليم بينما يري اخرون ان الكاتب اراد
خلق صدام بين الشباب و الدولة –علي حد تعبيرهم – ويري فريق ثالث ان الكاتب
من حقه ان يورد وجهة نظره وان بدت لا تعجب الكثيرين.
وابدي عدد كبير من الاعلاميين من اهل الاذاعة و التلفزيون والصحافة استيائهم من المقال حيث كتبوا منشورات متفاوتة علي صفحاتهم الخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي انتقدوا فيها المقال. واللافت للنظر ان مجموعة شارع الحوادث لم تنشر المقال ولم تعلق عليه حتي، لكن الداعمين والمتطوعين شنواً هجوماً عنيفاً علي الكاتب و الصحيفة علي مدي ثلاثة ايام متواصلة دون كلل او ملل.
يعتبر النقد البناء من اهم عوامل تطور ورقي الامم. و لكن صفة البناء يجب ان تلازم وتتبع كلمة النقد لان النقد نفسه مقيد باخلاقيات و اعراف وتقاليد.
الحرية نفسها (حرية الصحافة) لها سقوفات تحيط بمعصمها فلا حرية مطلقة ولا نقد مطلق بلا ضابط ولا رقيب. (حق التعبير) مكفول للجميع ايضاً ولكن بسقوفات ايضاً وحدود واخلاقيات. وكل هذه القيم تسمي (اعراف و اخلاقيات مهنة الصحافة) و هي تدرس لطلاب كليات الاعلام في سنتهم الاولي. وهذه الحزم من الاخلاقيات عالمية لا تختلف من دولة لاخري لانها مستمدة من اكثر من ستة اعلانات مباديء صادرة من الامم المتحدة اضافة الي قرارين واتفاقيتين.
تابعت ما خطه يراع الاستاذ الهندي عزالدين واعتقد ان المقال حمل بين طياته العديد من النقاط التي اود الاشارة اليها و الوقوف عندها.
قبل الدخول في تفاصيل المقال اذكر بنقطة مهمة وهي ان اكثر من ثلاثين صحيفة سودانية كتبت عن برنامج تسليم غرفة العناية المكثفة للاطفال - الذي قامت به مجموعة شباب شارع الحوادث - بينما اختارت تسع صحف ان يتصدر الخبر العناوين الرئيسية فيها و اختارت احداها ان يكون خبر الافتتاح هو العنوان الاول لها و استمرت تغطية الصحف السودانية للحدث لخمسة ايام متتالية بينما كتب كتاب من فئة الفايف ستارز مقالات مساندة قوية جداً فكتاب امثال الاساتذة محجوب محمد صالح والطاهر ساتي ونور الدين مدني وصلاح الدين عووضة وراشد عبدالرحيم و الفاتح جبرا و عبدالرفيع مصطفي وبقية العقد الفريد النضيد الاقدر علي توجيه دفة الراي العام توجيهاً صحيحاً. اضف الي كل ذلك الوجود الكثيف لفضائيات محلية و عربية واذاعات اف ام تبارت في نقل الحدث حياً و تسجيلاً. وهذا كله يعكس اتجاهات راي عام اراها مجمعة علي حسن صنيع شارع الحوادث وكلها تصب في الوقوف مع المبادرة.
فلندخل الي عالم المقال فقرة فقرة:
- "عندما تصبح (ست الشاي) وزيرة صحة فقط لاغراض هذا الاحتفال".
هذا هو عنوان مقال الاستاذ الهندي عز الدين. والمعلوم ان عبارة (ست الشاي) هي عبارة عامية وتحتم قواعد اللغة العربية وضعها بين قوسين. ولكن اذا نظرنا الي خلاصة المقال نجد ان الكاتب بني مقاله علي رفض فكرة ان تقوم (ست شاي) بقص شريط (تسليم الغرفة) لهذا نجد ان الكاتب استخدم الاقواس لغرضين الاول هو (عامية الكلمة) وهو استخدام لا غبار عليه و الغرض الثاني هو (لفت النظر) والذي يفهم منه (التعريض) بست الشاي كما هو واضح في سياق المقال.
ويعزز من فرضية (التعريض) ما ساقه الكاتب من مفارقة واضحة بين (ست الشاي) و (وزير الصحة) في خاتمة المقال حيث استنكر الكاتب ان تحل (ست الشاي) محل (وزير الصحة).
و(التعريض) يستخدم للتقليل من الشخص الاخر او النيل منه بصورة ضمنية وهو اقل درجة من الاستخفاف والاستهزاء.
والتعريض في اللغة ان تقول كلاماً لا تصرح فيه بمرادك منه فتشير اليه اشارات خفية ويمكنك ان تتهرب من التزام ما اشرت به اليه اذا صرت محرجاً.
ويلجأ الكتاب الي التعريض عندما يكون التصريح مثيراً لغضب او نقد من شخص او فئة او مجموعة ليتركوا الباب خلفهم مفتوحاً للانكار لان الدلالات تكون ضمنية ولا توجد ممسكات ضد الكتاب.هذا اولاً.
ثانياً: افترض الكاتب افتراضاً ان مجموعة شارع الحوادث وضعت ست الشاي مكان الوزير وهو نسف لفكرة الرمزية فالصحيح ان شارع الحوادث رأت ان تكرم ام قسمة بقص الشريط في عمل لا يستدعي وجود وزير او سفير.
ثالثاً: كل المطبوعات التي خرجت كانت تقول ان الحدث هو (تسليم غرفة العناية المكثفة) وليس (افتتاح) لان شارع الحوادث شيدت الغرفة وسلمتها لمستشفي محمد الامين حامد ووجود رقاع دعوة مكتوب عليها (تسليم غرفة العناية المكثفة) ينسف فكرة المقال من اساسها لان الحدث لم يكن (افتتاحاً) وانما كان (تسليماً للغرفة للمستشفي). و (التسليم) عكس (الافتتاح) لا تصاحبه بروتوكولات.
- مقارنة التراتيبة التي ذكرها الكاتب لا علاقة لها بموضوع تسليم الغرفة لا من قريب ولا من بعيد.
- (قبل يومين احتفلت صحفنا بخبر افتتاح ست شاي لغرفة عناية مكثفة للاطفال).
في هذه العبارة وكأن الكاتب يرسل صوت لوم للصحافة السودانية علي احتفائها بالخالة قسمة علي الرغم من ان اكثر من ثلاثين صحيفة نشرت الخبر وتصدر اسم الخالة قسمة العناوين الرئيسية لتسع صحف يومذاك. فلم اعرف ما الهدف من انتقاد الصحافة علي افرادها مساحات للخبر. اضف الي ذلك ان القاصي و الداني يعلم ان (ست الشاي) تلك اسمها (ام قسمة) بالتالي ورود عبارة (ست شاي) منكرة (بدون الف ولام) فيه استخفاف واضح وجلي بحسب قواعد استخدام التعريف والتنكير.
- (شباب شارع الحوادث الذين ظلوا يرابطون بذلك الشارع جوار اقسام الطواريء بمستشفي الخرطوم يجمعون التبرعات من عامة المواطنين ورجال ونساء البر و الاحسان لشراء الادوية و مساعدة المرضي المعسرين).
هذه الفقرة توضح عدم معرفة الكاتب بمبادرة شارع الحوادث وتوضح عدم اجتهاده في الاطلاع و تجميع الداتا قبل كتابة المقال فشارع الحوادث مختصة بالاطفال فقط ولا علاقة لها بحالات الكبار. عدم معرفة الكاتب بتفاصيل المبادرة ينسف فكرة نقدها من اساسه و يصنع خللاً في موازين الكاتب والكتابة لان الصورة غير مكتمله في ذهنه وبالتالي سيكون النقد مجافياً للحقائق التي لم يسع الكاتب لمعرفتها.
- (المبادرة في حد ذاتها لا غبار عليها و تستحق الدعم و المؤازرة و تشجيع قيام مبادرات شبيهة جوار كل مستشفي و مركز صحي في السودان).
هذه الفقرة تعزز فرضية عدم معرفة الكاتب بالمبادرة وعدم اجتهاده ليعرف ومن ثم يكتب لينتقد فشارع الحوادث لا تعمل في اي مستشفي ولا حتي في اي مركز صحي وانما تعمل كما اسلفت في طواريء الاطفال فقط.
- (لكن اصرار هؤلاء الشباب المتحمسين علي تقديم احدي خالتنا المحترمات من "ستات الشاي" لقص شريط الافتتاح يعبر بوضوح عن "حالة الرفض الشامل" وعدم الاعتراف باي كبير في هذا المجال وزير او مدير او اختصاصي فكل هؤلاء وغيرهم لا يمثلون شيئاً عند هذا الشباب الرافض لكل شيء).
وفي هذه الفقرة تحول الكاتب الي امتطاء صهوة جواد الخيال والغوص في ثنايا القلوب قافزاً فوق حاجز الشريعة التي تحكم بالظاهر جازماً بان الفعل حالة رفض شاملة صابغاً علي الشباب صفة (الرافض لكل شيء) واهمل الكاتب ابراز انجاز الشباب في تشييد غرفة عناية مكثفة للاطفال بجهد شبابي خالص واصبح للفقراء غرفة عناية مجانية لاطفالهم بعد ان غيب الموت الكثير من الاطفال بسبب عدم توفر ثلاثة ملايين هي قيمة اليوم الواحد لغرفة عناية بمشفي خاص . وهو انجاز يحفظه التاريخ لشباب شارع الحوادث. اهمال اظهار الانجاز احدث خللاً في المقال وامال كفة المقال الي الناحية الاخري وقد يكون الكاتب يعلم او لا يعلم ان الخرطوم بطولها وعرضها لم تكن في مشافيها الحكومية غرفة عناية مكثفة للاطفال حتي اواخر العام الماضي.
- (ولهذا جاءوا بالسيدة الفاضلة "ست الشاي" لتقص الشريط في سابقة خطيرة تهدد بنسف اي فكرة لمشروع تراتبيه محترمه في السودان).
افترض الكاتب افتراضاً ان هناك مشروع تراتبيه في السودان وبني عليها اسفه علي ضياعها ووصف السابقة بالخطيرة علي الرغم من ان التراتبية نفسها لم تولد بعد بحسب صدر المقال . وبما ان الكاتب اعترض في بدايات مقاله علي ان تقص ست الشاي الشريط نجد ان عبارة (السيدة الفاضلة) التي سبقت عبارة (ست الشاي) في الفقرة اعلاه تدخل ضمناً في دائرة الاستخفاف فمفارقة (الاعتراض) ومن ثم تقديم عبارات (الاحترام) واضحة جلية.
المهن الهامشية ليست معيار للسوء ومحل للتعريض ولا المهن الفخيمة مقياس للحسن فان اكرمكم عند الله اتقاكم هو معيار الله الذي يميز به خلقه وما دونه فهو باطل. وقد تكون ست الشاي اكرم عند الله منا جميعا.
- (ولكني صراحة استشعرت في ثنايا الفكرة حالة رفض صادمة و مقلقة اكثر من نموذج لوفاء وعرفان وتبجيل لشرائح ضعيفة).
استشعار الكاتب لا محل له في اعراب ارض الواقع. فالكاتب بعيد عن واقع المبادرة كما دللت احدي فقرات مقاله . فيجب علي اي كاتب الا يستشعر بل يستوثق ويتأكد قبل ان يكتب ولا محل للاستشعار في قدسية الاخبار.
- (هي في الغالب حالة هتافية ناعمة وصاخبة في ذات الوقت ولم تستطع اكاليل زهور الاحتفال المتناثرة في المكان التغطية علي تفاصيل ذاك المشهد العبثي).
وصف مشهد الافتتاح ب(المشهد العبثي) فيه اسقاط كبير لمجهود الشباب الذي ظل يدفع ويستقطب الدعم لعامين متتالين من اجل قيام غرفة عناية مكثفة يتنسم فيها اطفالهم (حبة اوكسجين) بعد ان تلكأت و تباطأت وزارة الصحة في انشاء غرفة عناية مكثفة للاطفال في الخرطوم وظل اطفال الفقراء يموتون لعجز اهاليهم عن دفع ثلاثة ملايين ثمن الاقامة ليوم واحد في غرفة عناية مكثفة بمشفي خاص. وصف الكاتب لمشهد الافتتاح ب(المشهد العبثي) فيه استعداء للمبادرة و استخفاف بها وبكل من ساندها ووقف خلفها.
- (ان الامة التي تضع ست الشاي مكان وزير الصحة ووزير الصحة محل ست الشاي لا يمكنها ان تتقدم شبراً الي الامام في ظل هذا النظام او غيره من انظمة الثوار).
من قال ان تقدم الامم مربوط بالمهن الهامشية او المهن الفخيمة؟ فرئيس البرازيل السابق وصاحب اكبر نهضة اقتصادية كان ماسح احذية. نعم كان يعمل ماسح احذية في محطات القطار في ضواحي برازيليا وصعد بالبرازيل لتصبح ثامن اكبر اقتصاد في العالم. بعد انتهاء ولايته الاولي انتخبه البرازيليون لولاية ثانية. وبعد انتهاء الولاية الثانية كان الدستور البرازيلي لا يسمح لدي سيلفا بالترشح لولاية ثالثة فخرجت البرازيل عن بكرة ابيها في مسيرات تطالب البرلمان بعقد جلسة طارئة لنشر استفتاء يقضي بتعديل الدستور ليسمح للرئيس بثلاث دورات بدلاً عن دورة واحدة. وكان الشعب في الشوارع يستعد للتوقيع والبصم وبالعشرة ولكن دي سيلفا – ابن قاع المدينة – خرج الي الشعب عبر التلفزيون الرسمي ليؤكد انه لن يترشح وان عدل الدستور. كان يتحدث وهو يبكي ويمسح دموعه بثلاثة اصابع من يده اليمني بعد ان دهس قطار اصبعيه الاخرين عندما كان يمسح الاحذية في محطة برازيليا.
وضع الكاتب كلمة (الثوار) بين قوسين بغرض لفت النظر - وهو احد اسباب استخدام القوسين - حتي يجعل كل من يقرأ المقال يقف عندها . ودلالات ذلك واضحة اراد الكاتب لها ان تفوح و تظهر ضمناً.
وبما ان الكاتب لم يطلع علي تجربة شارع الحوادث فهو لا يعلم ان شارع الحوادث مجموعة تطوعية تضم الكوز والشيوعي والبعثي والانصاري والختمي وحتي المسيحي فبناء الاوطان ساحة تشاركية يشارك فيها الجميع بلا استثناء.
يبدو ان الكاتب اتكأ – عند كتابة المقال - علي صورة ذهنية رسمها بنفسه ولنفسه ولم يتكيء علي ارقام وحقائق فكلها ظنون واستشعار تدخل الكاتب في دائرة (الاثارة الضارة بالمجتمع) و (المبالغةعند التعرض للظواهر السالبة) وهما مخالفتان صريحتان لمواثيق الشرف الصحفي .
بحكم عملي ست سنوات في الاذاعة السودانية وتلفزيون السودان في برنامجي (استديو الشباب) و (شباب يحتفل) علي التوالي استطيع ان اقدم (شهادة حق) فيما شهدت و تابعت من اعمال مجموعات العمل الطوعي عموماً ويمكن اجمالها في الاتي:
1- مجموعة العمل الطوعي هي مجتمع مثله مثل اي مجتمع وارد جداً تجد فيه ايجابيات كبيرة وبعض السلبيات (علي مستوي الافراد وليس علي مستوي الفكرة). ومتي ما تفوقت ايجابيات هذا المجتمع علي سلبياته – دون المساس بالثوابت طبعاً – يعتبر مجتمع يمكن التعاون معه و التعامل معه.
2-غالبية شباب و شابات مجموعات العمل الطوعي هم (عجينة) يمكن تشكيلها – بحسب اعمارهم – وبالتالي يجب التعاطي مع بعض السلبيات التي تظهر من بعضهم ب(فهم تربوي) وليس ب(فهم محاسبي) ومحاولة تطوير وبناء قدراتهم و ليس (اعتيالهم معنوياً) والزج بهم في صدام مع الدولة.
3- انجازات مجموعات العمل الطوعي علي الارض تتحدث عن نفسها ففي بعض الكوارث و الازمات التي مرت بها البلاد سبق حضور مجموعات العمل العوطي سبق الجهاز التنفيذي للدولة بايام وهو امر ليس محل خلاف لانه مثبت بتقارير الاعلام الرسمي انذاك.
4-الامم المتحدة وعبر ممثلها في الخرطوم اشادت بتجربة (شارع الحوادث) وطالبت بتعميم التجربة في كل دول العالم الثالث للافادة منها و هو ما يدلل علي ان هناك عمل يستحق الوقوف عنده.
امام كل هذا كان اولي بالكاتب بدلاً من الجلد بالسياط فوق ظهور شارع الحوادث والخالة قسمة كان اولي به ان يسأل وزيري الصحة الولائي والاتحادي عن غياب غرفة عناية مكثفة حكومية للاطفال وعن عدد الاطفال الذين ماتوا بسبب غياب غرف عناية مكثفة للاطفال وعن ثمن غرفة العناية المكثفة للطفل في مشفي خاص. وعن لماذا لم يقم الوزيران بالسعي لانشاء غرف عناية مكثفة مع ان كلفتها ملياري جنيه ونصف بالقديم . هذا هو دور الصحافة الرقابة لمصلحة الشعب وليس جلد الشعب بسياط من لهب.
وابدي عدد كبير من الاعلاميين من اهل الاذاعة و التلفزيون والصحافة استيائهم من المقال حيث كتبوا منشورات متفاوتة علي صفحاتهم الخاصة في شبكات التواصل الاجتماعي انتقدوا فيها المقال. واللافت للنظر ان مجموعة شارع الحوادث لم تنشر المقال ولم تعلق عليه حتي، لكن الداعمين والمتطوعين شنواً هجوماً عنيفاً علي الكاتب و الصحيفة علي مدي ثلاثة ايام متواصلة دون كلل او ملل.
يعتبر النقد البناء من اهم عوامل تطور ورقي الامم. و لكن صفة البناء يجب ان تلازم وتتبع كلمة النقد لان النقد نفسه مقيد باخلاقيات و اعراف وتقاليد.
الحرية نفسها (حرية الصحافة) لها سقوفات تحيط بمعصمها فلا حرية مطلقة ولا نقد مطلق بلا ضابط ولا رقيب. (حق التعبير) مكفول للجميع ايضاً ولكن بسقوفات ايضاً وحدود واخلاقيات. وكل هذه القيم تسمي (اعراف و اخلاقيات مهنة الصحافة) و هي تدرس لطلاب كليات الاعلام في سنتهم الاولي. وهذه الحزم من الاخلاقيات عالمية لا تختلف من دولة لاخري لانها مستمدة من اكثر من ستة اعلانات مباديء صادرة من الامم المتحدة اضافة الي قرارين واتفاقيتين.
تابعت ما خطه يراع الاستاذ الهندي عزالدين واعتقد ان المقال حمل بين طياته العديد من النقاط التي اود الاشارة اليها و الوقوف عندها.
قبل الدخول في تفاصيل المقال اذكر بنقطة مهمة وهي ان اكثر من ثلاثين صحيفة سودانية كتبت عن برنامج تسليم غرفة العناية المكثفة للاطفال - الذي قامت به مجموعة شباب شارع الحوادث - بينما اختارت تسع صحف ان يتصدر الخبر العناوين الرئيسية فيها و اختارت احداها ان يكون خبر الافتتاح هو العنوان الاول لها و استمرت تغطية الصحف السودانية للحدث لخمسة ايام متتالية بينما كتب كتاب من فئة الفايف ستارز مقالات مساندة قوية جداً فكتاب امثال الاساتذة محجوب محمد صالح والطاهر ساتي ونور الدين مدني وصلاح الدين عووضة وراشد عبدالرحيم و الفاتح جبرا و عبدالرفيع مصطفي وبقية العقد الفريد النضيد الاقدر علي توجيه دفة الراي العام توجيهاً صحيحاً. اضف الي كل ذلك الوجود الكثيف لفضائيات محلية و عربية واذاعات اف ام تبارت في نقل الحدث حياً و تسجيلاً. وهذا كله يعكس اتجاهات راي عام اراها مجمعة علي حسن صنيع شارع الحوادث وكلها تصب في الوقوف مع المبادرة.
فلندخل الي عالم المقال فقرة فقرة:
- "عندما تصبح (ست الشاي) وزيرة صحة فقط لاغراض هذا الاحتفال".
هذا هو عنوان مقال الاستاذ الهندي عز الدين. والمعلوم ان عبارة (ست الشاي) هي عبارة عامية وتحتم قواعد اللغة العربية وضعها بين قوسين. ولكن اذا نظرنا الي خلاصة المقال نجد ان الكاتب بني مقاله علي رفض فكرة ان تقوم (ست شاي) بقص شريط (تسليم الغرفة) لهذا نجد ان الكاتب استخدم الاقواس لغرضين الاول هو (عامية الكلمة) وهو استخدام لا غبار عليه و الغرض الثاني هو (لفت النظر) والذي يفهم منه (التعريض) بست الشاي كما هو واضح في سياق المقال.
ويعزز من فرضية (التعريض) ما ساقه الكاتب من مفارقة واضحة بين (ست الشاي) و (وزير الصحة) في خاتمة المقال حيث استنكر الكاتب ان تحل (ست الشاي) محل (وزير الصحة).
و(التعريض) يستخدم للتقليل من الشخص الاخر او النيل منه بصورة ضمنية وهو اقل درجة من الاستخفاف والاستهزاء.
والتعريض في اللغة ان تقول كلاماً لا تصرح فيه بمرادك منه فتشير اليه اشارات خفية ويمكنك ان تتهرب من التزام ما اشرت به اليه اذا صرت محرجاً.
ويلجأ الكتاب الي التعريض عندما يكون التصريح مثيراً لغضب او نقد من شخص او فئة او مجموعة ليتركوا الباب خلفهم مفتوحاً للانكار لان الدلالات تكون ضمنية ولا توجد ممسكات ضد الكتاب.هذا اولاً.
ثانياً: افترض الكاتب افتراضاً ان مجموعة شارع الحوادث وضعت ست الشاي مكان الوزير وهو نسف لفكرة الرمزية فالصحيح ان شارع الحوادث رأت ان تكرم ام قسمة بقص الشريط في عمل لا يستدعي وجود وزير او سفير.
ثالثاً: كل المطبوعات التي خرجت كانت تقول ان الحدث هو (تسليم غرفة العناية المكثفة) وليس (افتتاح) لان شارع الحوادث شيدت الغرفة وسلمتها لمستشفي محمد الامين حامد ووجود رقاع دعوة مكتوب عليها (تسليم غرفة العناية المكثفة) ينسف فكرة المقال من اساسها لان الحدث لم يكن (افتتاحاً) وانما كان (تسليماً للغرفة للمستشفي). و (التسليم) عكس (الافتتاح) لا تصاحبه بروتوكولات.
- مقارنة التراتيبة التي ذكرها الكاتب لا علاقة لها بموضوع تسليم الغرفة لا من قريب ولا من بعيد.
- (قبل يومين احتفلت صحفنا بخبر افتتاح ست شاي لغرفة عناية مكثفة للاطفال).
في هذه العبارة وكأن الكاتب يرسل صوت لوم للصحافة السودانية علي احتفائها بالخالة قسمة علي الرغم من ان اكثر من ثلاثين صحيفة نشرت الخبر وتصدر اسم الخالة قسمة العناوين الرئيسية لتسع صحف يومذاك. فلم اعرف ما الهدف من انتقاد الصحافة علي افرادها مساحات للخبر. اضف الي ذلك ان القاصي و الداني يعلم ان (ست الشاي) تلك اسمها (ام قسمة) بالتالي ورود عبارة (ست شاي) منكرة (بدون الف ولام) فيه استخفاف واضح وجلي بحسب قواعد استخدام التعريف والتنكير.
- (شباب شارع الحوادث الذين ظلوا يرابطون بذلك الشارع جوار اقسام الطواريء بمستشفي الخرطوم يجمعون التبرعات من عامة المواطنين ورجال ونساء البر و الاحسان لشراء الادوية و مساعدة المرضي المعسرين).
هذه الفقرة توضح عدم معرفة الكاتب بمبادرة شارع الحوادث وتوضح عدم اجتهاده في الاطلاع و تجميع الداتا قبل كتابة المقال فشارع الحوادث مختصة بالاطفال فقط ولا علاقة لها بحالات الكبار. عدم معرفة الكاتب بتفاصيل المبادرة ينسف فكرة نقدها من اساسه و يصنع خللاً في موازين الكاتب والكتابة لان الصورة غير مكتمله في ذهنه وبالتالي سيكون النقد مجافياً للحقائق التي لم يسع الكاتب لمعرفتها.
- (المبادرة في حد ذاتها لا غبار عليها و تستحق الدعم و المؤازرة و تشجيع قيام مبادرات شبيهة جوار كل مستشفي و مركز صحي في السودان).
هذه الفقرة تعزز فرضية عدم معرفة الكاتب بالمبادرة وعدم اجتهاده ليعرف ومن ثم يكتب لينتقد فشارع الحوادث لا تعمل في اي مستشفي ولا حتي في اي مركز صحي وانما تعمل كما اسلفت في طواريء الاطفال فقط.
- (لكن اصرار هؤلاء الشباب المتحمسين علي تقديم احدي خالتنا المحترمات من "ستات الشاي" لقص شريط الافتتاح يعبر بوضوح عن "حالة الرفض الشامل" وعدم الاعتراف باي كبير في هذا المجال وزير او مدير او اختصاصي فكل هؤلاء وغيرهم لا يمثلون شيئاً عند هذا الشباب الرافض لكل شيء).
وفي هذه الفقرة تحول الكاتب الي امتطاء صهوة جواد الخيال والغوص في ثنايا القلوب قافزاً فوق حاجز الشريعة التي تحكم بالظاهر جازماً بان الفعل حالة رفض شاملة صابغاً علي الشباب صفة (الرافض لكل شيء) واهمل الكاتب ابراز انجاز الشباب في تشييد غرفة عناية مكثفة للاطفال بجهد شبابي خالص واصبح للفقراء غرفة عناية مجانية لاطفالهم بعد ان غيب الموت الكثير من الاطفال بسبب عدم توفر ثلاثة ملايين هي قيمة اليوم الواحد لغرفة عناية بمشفي خاص . وهو انجاز يحفظه التاريخ لشباب شارع الحوادث. اهمال اظهار الانجاز احدث خللاً في المقال وامال كفة المقال الي الناحية الاخري وقد يكون الكاتب يعلم او لا يعلم ان الخرطوم بطولها وعرضها لم تكن في مشافيها الحكومية غرفة عناية مكثفة للاطفال حتي اواخر العام الماضي.
- (ولهذا جاءوا بالسيدة الفاضلة "ست الشاي" لتقص الشريط في سابقة خطيرة تهدد بنسف اي فكرة لمشروع تراتبيه محترمه في السودان).
افترض الكاتب افتراضاً ان هناك مشروع تراتبيه في السودان وبني عليها اسفه علي ضياعها ووصف السابقة بالخطيرة علي الرغم من ان التراتبية نفسها لم تولد بعد بحسب صدر المقال . وبما ان الكاتب اعترض في بدايات مقاله علي ان تقص ست الشاي الشريط نجد ان عبارة (السيدة الفاضلة) التي سبقت عبارة (ست الشاي) في الفقرة اعلاه تدخل ضمناً في دائرة الاستخفاف فمفارقة (الاعتراض) ومن ثم تقديم عبارات (الاحترام) واضحة جلية.
المهن الهامشية ليست معيار للسوء ومحل للتعريض ولا المهن الفخيمة مقياس للحسن فان اكرمكم عند الله اتقاكم هو معيار الله الذي يميز به خلقه وما دونه فهو باطل. وقد تكون ست الشاي اكرم عند الله منا جميعا.
- (ولكني صراحة استشعرت في ثنايا الفكرة حالة رفض صادمة و مقلقة اكثر من نموذج لوفاء وعرفان وتبجيل لشرائح ضعيفة).
استشعار الكاتب لا محل له في اعراب ارض الواقع. فالكاتب بعيد عن واقع المبادرة كما دللت احدي فقرات مقاله . فيجب علي اي كاتب الا يستشعر بل يستوثق ويتأكد قبل ان يكتب ولا محل للاستشعار في قدسية الاخبار.
- (هي في الغالب حالة هتافية ناعمة وصاخبة في ذات الوقت ولم تستطع اكاليل زهور الاحتفال المتناثرة في المكان التغطية علي تفاصيل ذاك المشهد العبثي).
وصف مشهد الافتتاح ب(المشهد العبثي) فيه اسقاط كبير لمجهود الشباب الذي ظل يدفع ويستقطب الدعم لعامين متتالين من اجل قيام غرفة عناية مكثفة يتنسم فيها اطفالهم (حبة اوكسجين) بعد ان تلكأت و تباطأت وزارة الصحة في انشاء غرفة عناية مكثفة للاطفال في الخرطوم وظل اطفال الفقراء يموتون لعجز اهاليهم عن دفع ثلاثة ملايين ثمن الاقامة ليوم واحد في غرفة عناية مكثفة بمشفي خاص. وصف الكاتب لمشهد الافتتاح ب(المشهد العبثي) فيه استعداء للمبادرة و استخفاف بها وبكل من ساندها ووقف خلفها.
- (ان الامة التي تضع ست الشاي مكان وزير الصحة ووزير الصحة محل ست الشاي لا يمكنها ان تتقدم شبراً الي الامام في ظل هذا النظام او غيره من انظمة الثوار).
من قال ان تقدم الامم مربوط بالمهن الهامشية او المهن الفخيمة؟ فرئيس البرازيل السابق وصاحب اكبر نهضة اقتصادية كان ماسح احذية. نعم كان يعمل ماسح احذية في محطات القطار في ضواحي برازيليا وصعد بالبرازيل لتصبح ثامن اكبر اقتصاد في العالم. بعد انتهاء ولايته الاولي انتخبه البرازيليون لولاية ثانية. وبعد انتهاء الولاية الثانية كان الدستور البرازيلي لا يسمح لدي سيلفا بالترشح لولاية ثالثة فخرجت البرازيل عن بكرة ابيها في مسيرات تطالب البرلمان بعقد جلسة طارئة لنشر استفتاء يقضي بتعديل الدستور ليسمح للرئيس بثلاث دورات بدلاً عن دورة واحدة. وكان الشعب في الشوارع يستعد للتوقيع والبصم وبالعشرة ولكن دي سيلفا – ابن قاع المدينة – خرج الي الشعب عبر التلفزيون الرسمي ليؤكد انه لن يترشح وان عدل الدستور. كان يتحدث وهو يبكي ويمسح دموعه بثلاثة اصابع من يده اليمني بعد ان دهس قطار اصبعيه الاخرين عندما كان يمسح الاحذية في محطة برازيليا.
وضع الكاتب كلمة (الثوار) بين قوسين بغرض لفت النظر - وهو احد اسباب استخدام القوسين - حتي يجعل كل من يقرأ المقال يقف عندها . ودلالات ذلك واضحة اراد الكاتب لها ان تفوح و تظهر ضمناً.
وبما ان الكاتب لم يطلع علي تجربة شارع الحوادث فهو لا يعلم ان شارع الحوادث مجموعة تطوعية تضم الكوز والشيوعي والبعثي والانصاري والختمي وحتي المسيحي فبناء الاوطان ساحة تشاركية يشارك فيها الجميع بلا استثناء.
يبدو ان الكاتب اتكأ – عند كتابة المقال - علي صورة ذهنية رسمها بنفسه ولنفسه ولم يتكيء علي ارقام وحقائق فكلها ظنون واستشعار تدخل الكاتب في دائرة (الاثارة الضارة بالمجتمع) و (المبالغةعند التعرض للظواهر السالبة) وهما مخالفتان صريحتان لمواثيق الشرف الصحفي .
بحكم عملي ست سنوات في الاذاعة السودانية وتلفزيون السودان في برنامجي (استديو الشباب) و (شباب يحتفل) علي التوالي استطيع ان اقدم (شهادة حق) فيما شهدت و تابعت من اعمال مجموعات العمل الطوعي عموماً ويمكن اجمالها في الاتي:
1- مجموعة العمل الطوعي هي مجتمع مثله مثل اي مجتمع وارد جداً تجد فيه ايجابيات كبيرة وبعض السلبيات (علي مستوي الافراد وليس علي مستوي الفكرة). ومتي ما تفوقت ايجابيات هذا المجتمع علي سلبياته – دون المساس بالثوابت طبعاً – يعتبر مجتمع يمكن التعاون معه و التعامل معه.
2-غالبية شباب و شابات مجموعات العمل الطوعي هم (عجينة) يمكن تشكيلها – بحسب اعمارهم – وبالتالي يجب التعاطي مع بعض السلبيات التي تظهر من بعضهم ب(فهم تربوي) وليس ب(فهم محاسبي) ومحاولة تطوير وبناء قدراتهم و ليس (اعتيالهم معنوياً) والزج بهم في صدام مع الدولة.
3- انجازات مجموعات العمل الطوعي علي الارض تتحدث عن نفسها ففي بعض الكوارث و الازمات التي مرت بها البلاد سبق حضور مجموعات العمل العوطي سبق الجهاز التنفيذي للدولة بايام وهو امر ليس محل خلاف لانه مثبت بتقارير الاعلام الرسمي انذاك.
4-الامم المتحدة وعبر ممثلها في الخرطوم اشادت بتجربة (شارع الحوادث) وطالبت بتعميم التجربة في كل دول العالم الثالث للافادة منها و هو ما يدلل علي ان هناك عمل يستحق الوقوف عنده.
امام كل هذا كان اولي بالكاتب بدلاً من الجلد بالسياط فوق ظهور شارع الحوادث والخالة قسمة كان اولي به ان يسأل وزيري الصحة الولائي والاتحادي عن غياب غرفة عناية مكثفة حكومية للاطفال وعن عدد الاطفال الذين ماتوا بسبب غياب غرف عناية مكثفة للاطفال وعن ثمن غرفة العناية المكثفة للطفل في مشفي خاص. وعن لماذا لم يقم الوزيران بالسعي لانشاء غرف عناية مكثفة مع ان كلفتها ملياري جنيه ونصف بالقديم . هذا هو دور الصحافة الرقابة لمصلحة الشعب وليس جلد الشعب بسياط من لهب.
0 التعليقات:
إرسال تعليق