السودان، حسابات التغيير (الجزء الثالث والاخير)





السودان، حسابات التغيير (الجزء الثالث و الاخير)

في مقال سابق نشرته يوم 26/12/2013م تحت عنوان (السودان يستقل و يرفض ان ينتفض) ذكرت ان التغيير في السودان – من وجهة نظري – يجب ان يبدأ من الفرد ثم الاسرة ثم المجتمع ومن بعد ذلك نفكر في صناعة تغيير سياسي تحت أي مسمي (انتخابات- انقلاب- منقذ- تداول سلمي للسلطة- ثورة- انتفاضة).

فالسودان في الوقت الراهن يحتاج الي حملة (رفع وعي) شاملة خارج الاطار الحزبي. حملة (رفع وعي) يشارك فيها الكوز والانصاري والختمي والبعثي والمسيحي فبناء البلد ساحة تشاركية يسهم فيها الجميع وليس حكراً علي الوطني كما يتوهم. فالوطني ليس كل الشعب. السودان للجميع.

ولو قرأ الوطني سيرة دولة المدينة في عهد الرسول الكريم عليه افضل الصلوات واتم التسليم لعرف ان بنو قريظة وبنو قينقاع وبنو النضير كانوا يعيشون حول المدينة وفق اتفاق تقول احد بنوده ان يتشارك الجميع في الدفاع عن المدينة حال تعرضها لعدو خارجي. فما بال الوطني يرفض المسلمين ابناء وطنه.

كل من ينتمي الي حزب او طائفة او جماعة يمكن ان يشارك في هذه الحملة اذا قام باعلاء قيمة الوطن وان الوطن فوق الحزب والطائفة والجماعة.. علي الكوز والانصاري و الختمي والشيوعي خلع عباءة الانتماء قبل الدخول الي (الكلاس) لتعليم الناس الحق والخير والجمال.

نحتاج الي شباب من 18 – 40 سنة ليقودوا حملة (رفع الوعي) ليس لاسقاط النظام ولا لدعم المعارضة ولكن لبناء مجتمع واعي، متسامح، يقبل الاخر ويعرف واجباته قبل حقوقه.

نحتاج شباب يصل كل البيوت في البوادي و الحضر ويقرع الابواب باباً باباً في دعوة صريحة وواضحة لحملة رفع الوعي.

نحتاج شباب يفعل دور الدور المجتمعية ( مساجد- اندية – مقار جمعيات) لاقامة دورات لمحو الامية، محو الامية التقنية، بناء القدرات و تشارك المعرفة. تكوين روابط شبابية تعمل تحت مظلة الاندية والجمعيات هو الحل المؤقت لقيادة حملات رفع الوعي.

السودان مواجه باجيال معزولة عن بعضها البعض بصورة غريبة جدا. سياسات الانقاذ عزلت تواصل الاجيال وجمدت نقل التجربة وتشارك المعرفة. الحديث بوضوح وشفافية ووضع المشارط علي جروح الوطن هو المخرج.

في الثمانينات وما قبلها كانت دور المجتمع والروابط و الجمعيات هي التي تعمل علي رباعية (تشكيل الوجدان – نقل التجربة – تشارك المعرفة و بناء القدرات) فكانت روابط ابناء الاقاليم بالجامعات و المعاهد العليا والجمعيات تقدم الدورات المجانية والمعارض و الليالي الثقافية واركان النقاش بصورة شبه يومية تنقل عبرها تجربتها قولاً و فعلاً في حراك مجتمعي تشاركي افتقده السودان لعشرين عاماً واحدث هوة في نقل التجربة وتبادل المعرفة.

فالانقاذ حظرت الروابط والجمعيات منذ عام 1990م وحتي حكومة الوحدة الوطنية 2005م الا تحت لواء (الاتحاد الوطني للشباب السوداني) الجسم الذي ينتمي للمؤتمر الوطني فغاب دور الاخر و عزف الجميع عن المشاركة في هذه الانشطة المسيسة لعدم احترام الاخر بهذا القرار المجحف الذي جعل الاتحاد الوطني للشباب السوداني يتسيد المشهد الشبابي السوداني بلا كفاءة ولا كم معرفي ولا خبرات فانتهي كما بدأ بلا انجاز علي الارض.

الانقاذ اغلقت معاهد تدريب المعلمين في ام درمان، شندي، مدني، الخرطوم والدلنج وكادوقلي. هذه المعاهد كانت ترسم لوحة سودانية داخل المعهد الواحد فطلاب دنقلا درسوا في الدلنج وطلاب الدلنج في شندي وطلاب شندي في كادوقلي في نسيج اجتماعي بديع. وبعد التخرج يذهب ابن الفاشر مديراً لمدرسة في دنقلا وابن كسلا وكيلاً لمدرسة في جوبا وابن ملكال مفتشاً للتعليم في كسلا وابن دنقلا وكيلاً لمدرسة في بورتسودان. وهذا يعيدنا الي مربع (الحكم اللامركزي) الذي تحدثت عنه في الجزء الثاني من هذه السلسلة وما افرزه من قبلية وجهوية وعصبية.

لقد اقترب وقت خلو مشهد التعليم العام السوداني من كوادر المرحلة المتوسطة بعد مرور 24عاماً علي اغلاق معاهد التربية في قرار كان بداية النهاية للتعليم العام والعالي في السودان. انقطاع الاجيال يظهر من هنا فراية معاهد التربية لم تعد تسلم من 24 عاماً فالمعرفة الموجودة في الرؤوس ستندثر بعد خلو المشهد السوداني من هذه الكوادر التي تعلمت علي ايدي علماء ولكن للاسف لم تنقل معرفتها وتجربتها وثقافتها للدفع التي تلتها بعد اغلاق معاهد التربية.

هذا مجرد مثال من امثلة كثيرة اذ يمكنك قياس (اغلاق معاهد التربية) وما احدثه من اثر في نقل التجربة والمعرفة والخبرة يمكنك قياسه علي السكة حديد ومشروع الجزيرة وادارة الكهرباء وكل المرافق التي قامت الانقاذ بافراغها من الكفاءات وقامت باعادة هيكلتها وصياغتها .

نحن نحتاج الي ثورة فكرية ثقافية مجتمعية قبل حاجتنا الي ثورة سياسية تجد مجتمعاً مفككاً بفعل سياسات الانقاذ مجتمع مليء بالقبيلة والعصبية والجهوية.

نحن امام وضع اسثنائي فكل الخيارات غير مأمونة العواقب. الثورة والانتفاضة كل الدلائل تشير الي انها بدايات صوملة لسبب بسيط ان الانقاذ نظام تغلغل في السودان وامتلك كل مفاصل الدولة كما اشرت في المقالين السابقين اضف الي ذلك ان الوطني حزب عقائدي وليس حزب سياسي وهو ما يعقد من وضع الثورة او الانتفاضة.

خيار الانتفاضة في ظل تسييس النقابات والاتحادات وغياب دور النخب صعب التحقق فلا ارضية لحدوث انتفاضة في الوقت الراهن علي الاقل .

خيار ان تكون الانقاذ جزء من الحل خيار اصعب لتمسك صقور الوطني باغلاق باب المشاركة امام الجميع.

ان يحدث تحول ديموقراطي عبر الانتخابات هو المستحيل بعينه فالوطني لن يدخر وسعاً في الفوز بالانتخابات بصورة نزيهة او غير نزيهة.

اذن السودان امام (محك حقيقي) وخيارات التغيير في السودان بالغة التعقيد في بلد يضم سبعة مناخات جغرافية واكثر من 300 لهجة محلية وتعدد عرقي وديني وثقافي.

قد يسلم البعض بان الثورة والانتفاضة ليست مستحيلة لكن حقائق الارقام والوضع الراهن يشير الي غير ذلك فالسودان يختلف عن مصر وعن بقية دول الربيع العربي أي ان الثورة في السودان افضل منها الانتفاضة بكثير لكن الانتفاضة تحتاج ارضية هي غائبة عن المشهد السوداني منذ عشرين عاماً.

وقد يقول البعض ان وجود الانقاذ مهم في هذه المرحلة لانها ممسكة بتلابيب الدولة علي امل ان تستقر الاوضاع اقتصاديا واجتماعياً ثم يتم اقتلاعها ولكن ايضاً هذا خيار يعقد الاوضاع اكثر في ظل الغلاء والبطالة والوضع الاقتصادي المتردي والحظر الذي اقعد البلاد عشرين عاماً.

اذن خيارات هنا وخيارات هناك وكل مجتهد يعلي قيمة مصلحة البلد بالتاكيد. افضل ان نعمل علي رفع الوعي وتشارك المعرفة ونقل التجربة ونقل الخبرة لترميم ما افسدته الانقاذ في المجتمع لحين الوصول الي رؤية. ومن ثم بعد ان ننعم بمجتمع متسامح معافي من القبلية والعصبية يعرف واجباته قبل حقوقه بعد ان نصل هذه المرحلة ليس مهماً من سيحكم السودان.

نحتاج ان نبدأ من (قاعدة الهرم) و ليس من (رأس الهرم) فالبداية من (رأس الهرم) يعني (اعادة انتاج الازمة) ولكن البداية من (قاعدة الهرم) تعني توفير ارضية و خلق بيئة جديدة لاعادة بناء و اعمار البلد.
شاركه على جوجل بلس

عن حمدى صلاح الدين

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق