من باكو المجازر الى خرطوم الامل


بسم الله الرحمن الرحيم
(من ذاكرة التدريس 1-20)
مصطفى محمد قاسم
من (باكو المجازر) الى (خرطوم الامل)
الجزء الاول

وكنت وقتها اعمل مدرساً للغة الانجليزية بمدرسة عمربن الخطاب بالدروشاب. و في ربيع 1997م جاءنا من حلفا . كان يمتليء حماسةً. سرعان ما كسب ود الجميع. حريف و ساحر في كرة القدم. روحه الطيبة كانت محل تقدير معلميه وزملائه. كان ضمن مجموعة طيبة لم تنقطع علاقتهم بي رغم تشتت سبل الحياة. مجموعة رائعة تعرف قيمة الوفاء. يزورونني بين الفينة والاخرى و لنا لقاء شهري او شبه ذلك ينشط مع المناسبات ومائدة رمضانية تشاركية عنوانها (الجود بالموجود) نتبادل خلالهما اخبار بعضنا البعض منذ العام 2000م وحتى الان واتمنى ان يدوم هذا التواصل الذي احتفي به ايما احتفاء.
بعد ان انهى مصطفى محمد قاسم دراسته الثانوية قابلته ذات مره يحمل بين يديه اوراقاً واخبرني انه ذاهب الى العاصمة الاذربيجية (باكو) لدراسة هندسة النفط. تمنيت له التوفيق وافترقنا. ثم مضت اعوام خمسة تواصلنا فيها عبر الاسكايب لامور كثيرة تخصه ويطلب فيها الرأي و المشورة.
رنين الهاتف المتصل ايقظني ذات مساء ليقول قائل (مصطفى انضرب رصاص في الجامعة هو الان في الانعاش) ولم يكمل محدثي. سرت رعشة في جسدي . عاودت الاتصال ( بسم الله الرحمن الرحيم- مصطفى منو ورصاص شنو واي جامعة)؟؟ رد ( مصطفي محمد قاسم في اذربيجان اقتحم مهووس الجامعة واطلق النار على 45طالبا - مصطفى اصيب بطلقة في الراس – هو الان بين الحياة والموت – دعواتك يا استاذ). يااااااااااااااه – مصطفى الطيب الخلوق ؟ الذي ذكرنا في اخرمكالمة انه عائد بعد شهور ثلاثة. يااااااااااااه- اللهم لا اعتراض على حكمك.
شهر ونصف و (قلوب الخرطوم المكلومة) معلقة ب (جسد باكو النحيل) وكل التقارير من هناك ليست بافضل من سابقاتها.
وتعود القصة الى العام 2010 عندما خرج مصطفى من مكتب عميد جامعة(باكو)  الى ساحة الجامعة استعدادا للدخول الى قاعة الامتحانات في نسختها النهائية ليطوي بعدها احراش الغربة ويعود لاحضان الاهل وهو نازل درجات السلم المفضي الى الساحة كانت تداعبه احلام العودة الى الديار دون ان يدري ما يضمره قادم الدقائق. ليتفاجأ مصطفي بشاب  روسي يضع مسدساً على راس طالب سوداني من المستوى الاول (صغير السن)، الشاب لم يلحظ مصطفي لان مصطفى قادم من الخلف ، يقول مصطفى ( كان بامكاني الانسحاب والعودة الى مكتب العميد وطلب الشرطة ولكن عامل الزمن لم يكن في الصالح وحياة زميلي كانت على المحك فاتخذت قراري في كسر من الثانية بمهاجمة الروسي المهووس).  وبالفعل انقض مصطفى على المهووس من الخلف وطرحه ارضاً وتصارعا. مصطفى وجه االسوداني بالصعود لاعلى على ان ينزل هو اسفل الدرج وقد كان ولكن المهوس ومن موقعه على الارض اطلق رصاصة اصابت يد السوداني واستدار ناحية مصطفى  ليدفعه بقوة من صدرة واثناء سقوط مصطفى اطلق المهووس رصاصة على رأس مصطفى لتخترق (الفك الايمن وتخرج من اعلى الاذن اليسرى ) ليسقط مصطفى مضرجاً بدماء العزة والشرف والشهامة والمروءة والشجاعة. وبعد اطلاق النار على مصطفي صعد المهووس الى قاعات الامتحانات فاطلق الرصاص على 45 طالبا توفي منهم 32 و نجا 13 من بينهم مصطفى.
خمسة عشر يوماً في الانعاش و مثلها في قسم الجراحة ومثلها في السكن ليكون المجموع شهر ونصف ومصطفى يرزح تحت ثلاثية (الغربة والمرض ولهفة الاسرة وقلقها).
(وليد) و (فواز) زملاء مصطفى اللذين تقاسما (ديسك الدراسة) ركبا معاً فوق (سرج المحنة) وكانا ينسجان (خيوط الامل ) الذي كان يفقده مصطفى مع بزوغ كل فجر جديد ولعبا دوراً كبيراً في طمأنة الاسرة في الخرطوم.
ثم جاء قرار عودة مصطفى الى الخرطوم ونسبة لظروف امتحانات (وليد) لم يتمكن من مرافقته ف(تحزم) فواز و (تلزم) و تصدى للمهمة. فواز الذي اعرفه خرج من بيت عرف كيف يربي ابنه على الاخلاص، الامانة ، الوفاء , الشجاعة ، الثبات والتسليم لامر الله وقدره. فواز (راجل مالي يمينو تب).
كان وضع مصطفى غير مستقر نوعاً ما (لا يتحرك – لا يتكلم الا من همهمات – يرتعش من قمة رأسه الى اخمص قدميه).
وفي خطوة غير مأمونة العواقب تحرك فواز ومصطفى تحفهما دعوات الاهل والاصدقاء والركع السجود . تحركا من (باكو المجازر) الى (خرطوم الامل) الخرطوم التي خفت صوتها وافل نجمها وغربت شمسها من طول الانتظار. وفي الطائر الميمون الذي اقل آيات (النبل) وسطور (التفاني)  كانت ملحمة  ، فلا اديان ولا اعراق ولا الوان ولا دول . الجميع قام باعلاء قيمة الانسانية. الطبيب الهولندي الذي تصادف وجوده في الطائرة ترك مقعده البعيد واحتل مقعداً قريباً من مصطفى ل(يشيك) على مصطفى بين لحظة واخرى ويقدم الدعم اللازم في الوقت المناسب. الكل كان يعاود مصطفى مطبباً ومواسياً ومؤازراً في رحلة العزيمة والاصرار. ياااااااااااااااااااه ما اروع الانسان حين يتجرد من كل شيء ويعلي قيمة الانسانية.
اربع ساعات (كونيكشن) في مطار دبي مرت كأنها سنوات اربع ظللت سماوات مصطفى وفواز بالقلق والارق والالم  في تجربة قاسية اكبر من سني عمريهما ولكن الثبات والشجاعة والعزيمة والاصرار على الوصول بامان طغت على آلام ووحشة ومرارة وقسوة الوضع الحرج
(يااستاذ مصطفى وصل في طريقه من المطار الى المنزل) هو الهاتف مره اخرى. ارتديت ماتيسر . كانت الساعة الحادية عشرة والنصف مساء. اكثر من 500 شخص سدوا الطرق الاربعة المؤدية لمنزل مصطفى. كان استفتاءً حقيقيا لحب الناس لمصطفى. شققت طريقي بصعوبة وسط الجموع. دخلت. سلمت عليه. كان نحيفاً . شاحباً. مرهقاً. غير مستقر . اصر ان اجلس بجانبه على السرير . جلست. كان يقول كلمات لم افهم منها شيئاً كان يضغط علي يدي بشدة (ان افهم ما اقول).
(كاذب ثم كاذب ثم كاذب) من يقول ان دموعه لم تنهمر شلالات ذاك المساء. شجرة النخيل التي تقف شامخة وسط باحة منزل مصطفى ارتوت من عصير الدموع. كانت كحائط مبكى. عندما تخرج من غرفة مصطفى تجد نفسك لاا ارادياً تتجه الى النخلة. و (للدمع افتضاح) عبارة لم تكن حاضرة ذاك المساء وحسابات مداراة الدموع اختفت واستبيح بكاء الرجال. تقف تحت النخلة لتذرف الدموع وسط الآهات والأنات ثم تصمت بعد فترة فلا يوجد من يواسيك ولا يوجد من يصبرك ولا من يستحلفك (لان الجميع كان مشغول باداء ذات الفرض و تحت نفس النخلة).
الدموع كانت ارخص ثمن لابتسامة ظل يزرعها مصطفى في نفوسنا لعقد من الزمان. ومصطفى كان يقلب الطاولة فوق الرؤس كان يصبر الباكين الفارين من رؤيته يرتعش المتلهفين على عودته فارساً يزرع البسمة والامل في القلوب دون من او اذى. كان يقول بعبارات وعبرات (الحمد لله) (انا كويس) (حا اقوم ان شاء الله). وقد كان .
شاركه على جوجل بلس

عن حمدى صلاح الدين

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق