السودان، حسابات التغيير (الجزء الاول)


موالو المؤتمر الوطني قبل معارضيه ادركوا حقيقة ان (التغيير ضرورة من ضرورات المرحلة من اجل الحفاظ علي ما تبقي من سودان). و لكن خطي التغيير نفسها تائهة، حائرة، متخبطة و متشابكة المآلات لاسباب عديدة.
سيناريوهات التغيير في (الحالة السودانية الراهنة) لن تخرج عن خمسة سيناريوهات يمكن تفصيلها كالآتي:
1- (ثورة ضد النظام). و هذا السيناريو اثبت فشله بعد محاولات سبتمبر 2012م والتي ظهر جلياً من خلالها ان هناك هوة كبيرة بين جيلين من الشعب اسبابها عديدة منها انقطاع تواصل الاجيال الذي تسببت فيه الانقاذ عبر التضييق علي نقل التجربة بين الاجيال باغلاق دور الروابط والمناشط المجتمعية الحرة اضافة الي الغياب القسري لدور النخب كقادة للمجتمع اضف الي ذلك ضعف عدد مستخدمي الانترنت في السودان لان اهمية الانترنت تأتي في خلق اعلام موازي ضد الاعلام التقليدي التابع للدولة والذي اسر المواطن في ظل غياب دور النخب التوعوي. والاعلام الموازي في (الحالة الانقاذية) مهم جداً لانه سيقوم بالدور الذي كانت تقوم به النخب عبر النقابات والاتحادات والجبهات التي كان يقودها قادة المجتمع في كشف عورات ومساويء النظام والوقوف كرقيب علي مال وقوت وشرف الشعب. لكن الان كل النقابات والاتحادات والروابط اصبحت مسيسة وبالتالي فكل عزفها ظل علي تمجيد الحاكم واصبح بينها و بين الشعب مئات السنين الضوئية.
2- (انتفاضة شعبية). وهو سيناريو مستحيل ان يحدث في (الحالة السودانية الراهنة) لان للانتفاضة مقومات اساسية اهمها وجود نقابات واتحادات وطنية خالصة تمثل شرائح الشعب فعلاً نقابات غير مسيسة تعمل علي كشف الفساد ومساويء النظام وترفع الوعي الجمعي وهي التي يمكن ان تقود عصياناً مدنياً يشل حركة الحياة كما فعلت نقابات الاطباء و المحامين والقضاة في ابريل فالعصيان المدني مع رفع درجات الوعي يحقق انتفاضة شعبية واسعة تقتلع الانظمة الشمولية والديكتاتورية اقتلاعاً. ولكن في ظل نقابات واتحادات مسيسة من الصعب تحقيق عصيان مدني شامل يقود الي انتفاضة شعبية بمعناها الحقيقي.
3- (انقلاب عسكري). و هذا السيناريو مرفوض في الوقت الراهن لان المؤسسة العسكرية الان يسودها الاسلاميون و بالتالي أي انقلاب يعني (اعادة انتاج الازمة).
4- (ان تتصالح الانقاذ مع نفسها وتقبل بالاخر وتترك غلوها و مغالاتها من اجل الوطن). وهذا السيناريو اراه صعب المنال في ظل وجود صقور الوطني – التيار المتشدد داخل المؤتمر الوطني – التيار الذي يحكم سيطرته علي مطبخ القرار السياسي عبر بوابة المكتب القيادي ويعمل علي افشال أي تقارب بين الوطني و القوي السياسية الاخري وخير مثال (مكيدة) اعتقال الامام الصادق المهدي الاخيرة وتوجيه اتهامات تصل عقوبتها للاعدام ضد الامام في وقت يعتبر فيه الامام احد ابرز المعارضين الذين دعموا الانقاذ واسهموا في بقائها. وابلغ دليل علي مكيدة جناح الوطني المتشدد هو تصريح الامام من داخل كوبر (صقور الوطني وراء اعتقالي) التصريح الذي تصدر صحافة الخرطوم رابع ايام اعتقال المهدي ولم ينتبه له لا الحكومة ولا المعارضة. اذن صقور الوطني هم الاعلي كعباً داخل تيار الوطني علي الرغم من مغادرتهم للمشهد التنفيذي الا انهم لا زالوا ممسكين بالريموت كونترول عبر نفق المكتب القيادي للوطني.
5- السيناريو الاخير هو سيناريو (المقذ). و املي كبير جداً في هذا السيناريو. وان جاز التعبير هو (حلم) و ليس (امل) فهذا السيناريو هو الافضل – من وجهة نظري – منقذ يأتي من (اللا مكان) و (اللا زمان). لا يخطر علي بال احد. يعتقل الحكومة والمعارضة معاً. ويحل الاحزاب بيمينها ويسارها و يحكم قبضته الامنية علي ما تبقي من بلد ويعمل بوطنية وتجرد في ارساء دعائم التعليم، الاقتصاد، الصحة، الحكم المحلي و السياسة الخارجية. وبعد عشر سنوات يفتح باباً لتسجيل احزاب سياسية بثقافة جديدة وفكر جديد ومرجعيات قومية و يطلق العنان لممارسة ديموقراطية حقة يختار عبرها الشعب من يحكمه.
كلها سيناريوهات قد تبدو (مضحكة) ولكنها الحقيقة (المرة). لننتقل الي الحديث عن ستة محاور يحتاجها سودان الحق والخير و الجمال ليلحق بركب رفقائه.
الاقتصاد:
تضعضع الاقتصاد السوداني ووصل دركاً سحيقاً في عهد الانقاذ وخصوصاً بعد انفصال الجنوب حيث ذهبت 75% من حقول النفط السودانية حقاً اصيلاً لدولة الجنوب وفقاً لنصوص نيفاشا ولم يتبق غير 25% لدولة السودان وهو ما يعادل حوالي 120 الف برميل وهي بالكاد تكفي احتياجات السودان الداخلية اليومية. اضف الي ذلك الدمار والخراب الذي اصاب مشروع الجزيرة والزراعة عموماً بفعل السياسات الخاطئة ولعدم توفر مدخلات انتاج زراعية بسبب الحظر الاقتصادي المفروض علي السودان منذ عام 1997م. وبسبب عدم توفر مدخلات انتاج لا زراعية ولا صناعية اصبح السودان يستورد 89% من اجمالي احتياجاته – بحسب افادات برلماني لصحافة الخرطوم – وهو رقم كبير جداً ادي الي هبوط الجنيه بصورة مخيفة امام العملات الاخري. ولن ينصلح هذا الوضع ما لم يتم تعديل هذه المعادلة ليقوم السودان بالانتاج ومن ثم التصدير ويقلل حجم الوارد الي نسب اقل بكثير من النسب الحالية. وللاسف الشديد لم يكن الرئيس البشير محقاً وهو يقول – في مؤتمر رفع الدعم عن المحروقات الاخير – ان الشعب السوداني اصبح شعب استهلاكي وشعب غير منتج وهو حديث يدل علي عدم دراية بالواقع فالحظر الاقتصادي والسياسات الخاطئة هي التي اقعدت الصناعة والزراعة والانتاج بالبلاد وليس الشعب السوداني.
في اعتقادي الشخصي ان حل مشكلة الاقتصاد السوداني لابد ان يكون عبر بوابة (السياسة الخارجية) وليس عبر بوابة تغيير الوزراء ووزراء الدولة والحزم الاقتصادية. فالاقتصاد عجلة دولية تتاثر بالصادر والوارد. الحزم الاقتصادية يجب ان تبني علي النهضة الصناعية والزراعية وليس عبر بوابات الجبايات ورفع الدعم. والنهضة الزراعية والصناعية تتطلب مدخلات انتاج و نظام استثمار قوي وعلاقات دولية متينة. اذن (رفع الحظر الاقنصادي) هو اولي بوابات النهضة الزراعية والصناعية كمخرج للقضية الاقتصادية.
السياسة الخارجية: ظلت الانقاذ تنفذ سياسة خارجية اساسها الصدام مع المجتمع الدولي بافتعال معارك من غير معترك. كمثال تصريحات علي كرتي منذ تسعينيات القرن الماضي بان (امريكا تستهدف السودان لانه يطبق الشريعة) مع ان السودان لا يطبق ولا 5% من الشريعة الاسلامية. هذه هي الحقيقة التي يجب ان يعرفها كرتي ومن لف لفه. فالسعودية تطبق الشريعة الاسلامية بقص الرقبة وقطع الايدي والانقاذ تكافيء من تعدوا علي المال والقوت وتبتدع لهم قوانيين التحلل. ويوماً ما لم تهمس (امريكا) في اذن (السعودية) بالغاء الشريعة الاسلامية. اذن معركة (كرتي) مع (امريكا) حول (الشريعة) هي معركة من غير معترك.
السودان لفظ 21 دولة عربية وقفز فوق حاجزها ليبني علاقة استرتيجية مع ايران (عدو الخليج الاول) ليفقد السودان منظومة الخليج وما كانت تقدمه من دعم اقتصادي وسياسي وسند في المحافل الدولية. السودان عزل نفسه من محيطه العربي والاقليمي ومن ثم الدولي وتحول الي دولة مواجهة مع اسرائيل. السودان في عهد الانقاذ اصبح دولة لا تحترم المواثيق الدولية ولا المعاهدات التي توقع عليها فاضطر المجتمع الدولي الي عزله كدولة نشاذ فتم ادراج اسم السودان ضمن دول (محور الشر) ودخل قائمة (الدول الراعية للارهاب) وتم فرض الحظر الاقتصادي عليه عام 1997م. الحظر الذي حرم السودان من المنح والقروض وحقوقه في صناديق الامم المتحدة التي اوقفت كل مشروعاتها الانمائية في السودان.
الحكم اللامركزي:
يعتير الحكم اللامركزي من اكبر مساويء الانقاذ وقد افرز الحكم اللامركزي عدة سلبيات اهمها اهدار المال العام واضفاء النعرات القبلية والعصبية علي المجتمع. فالسودان الان يتكون من ثماني عشرة ولاية علي رأس كل ولاية والي ونائب والي ومستشارين وما بين عشرين الي ثلاثين وزيراً ومجلس شوري يضم مائة عضو او يزيد وهيئة شوري تضم بين ثلاثمائة الي ستمائة عضو وسيارات ومقار ومخصصات في اكبر عملية اهدار للمال العام في تاريخ السودان قديمه و حديثه. ونجد هيئات الشوري ومجالس الشوري واللجان الشعبية حتي علي مستوي الاحياء اخذت وضعاً يفوق حتي حدود صلاحياتها فما معني ان يطلب (قاضي محكمة) شهادة من (اللجنة الشعبية للحي).
لنأخذ (ولاية الخرطوم) كمثال. والي ونائب والي ومستشارين ووزراء ومجلس شوري وهيئة شوري ومخصصات.
ولاية الخرطوم تضم سبع محليات ولكل محلية معتمد وضباط اداريين ومديري ادارات ومكتب صحة وشئوون هندسية ومكتب تعليم وهلمجرا. والسبع محليات تضم 105 وحدة ادارية ولكل وحدة ادارية مجلس شوري وهيئة شوري وجيش عرمرم من المجالس و الهيئات الهلامية التي لا تقدم ولا تؤخر. هذا علي مستوي ولاية الخرطوم فقط. اذا عممنا هذه الارقام علي مجموع الولايات الثماني عشرة سنجد العجب العجاب.
وكان الاولي لدولة كالسودان تعاني من وضع اقتصادي متردي ان تعتمد الحكم المركزي لتقليل الصرف وتكوين وحدة مجتمعية في بلد به تعدد عرقي وثقافي وديني فستة اقاليم كانت تفي بالغرض (الخرطوم – الجزيرة – البحر الاحمر – دارفور – كردفان والشمالية). ويكون علي رأس كل اقليم حاكم يساعده مساعدين اثنين (اداري و فني) ويدير شئون الاقليم مجموعة من التكنوقراط كل حسب مجاله في (الكهرباء – المياه- التخطيط العمراني – الشباب والرياضة – الثقافة والاعلام وبقية الادارات). علي ان يدير الاقليم مجلس الحاكم المكون من (الحاكم- المساعد الاداري- المساعد الفني- قائد الحامية- مدير الشرطة ومديرو الادارات) و يشرف المساعد الاداري علي هذه الادارات اداريا ويشرف المساعد الفني عليها فنياً. وبهذا نبتعد عن الارزقية و حارقي البخور والمتعطلين والمتبطلين فاقدي الكفاءة والامانة.
ولو قارنا النظامين (المركزي) و (اللا مركزي) نجد ان النظام اللامركزي –النظام الحالي – فيه اهدار للمال العام اضافة الي انه افرز داء القبلية والمحاصصة في الولايات اضافة الي انه كرس لعملية حمل السلاح والتمرد نسبة للصلاحيات الممنوحة لمناطق بعيدة عن المركز وصحافة الخرطوم تذكر اخطر تهديد عندما هدد محمد طاهر ايلا – والي البحر الاحمر – هدد وزير المالية علي محمود بفصل ولاية البحر الاحمر ان لم يصرف مستحقات ولايته. التصريح الذي سحب من صحافة الخرطوم بعد خروجه للعلن. 

نكمل باذن الله وفضله وتوفيقه في الجزء الثاني
شاركه على جوجل بلس

عن حمدى صلاح الدين

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق